الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} هذه الجملة بيان لجملة {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر} [القمر: 26] باعتبار ما تضمنته الجملة المبيَّنة بفتح الياء من الوعيد وتقريب زمانه وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه. وضمير {لهم} جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور {سيعلمون} بياء الغائبة، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة {ستعلمون} بتاء الخطاب فضمير {لهم} التفات. وإرسال الناقة إشارة إلى قصة معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تلك المعجزة مقدِّمة الأسباب التي عُجل لهم العذاب لأجلها، فذكر هذه القصة في جملة البيان توطئة وتمهيد. والإِرسال مستعار لجعلها آية لصالح. وقد عُرف خَلْق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإِرسال في القرآن كما قال تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59] فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله. وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزةً وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح {فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة} [الشعراء: 154، 155] الخ. و {فتنة لهم} حال مقدر، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم، وتقدير معنى الكلام: إنا مرسلو الناقة آية لك وفتنة لهم. وضمير {لهم} عائد إلى المكذبين منهم بقرينة إسناد التكذيب كما تقدم. واسم الفاعل من قوله: {مرسلوا الناقة} مستعمل في الاستقبال مجازاً بقرينة قوله: {فارتقبهم واصطبر}، فعدل عن أن يقال: سنرسل، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقة في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال. والارتقاب: الانتظار، ارتقب مثل: رقب، وهو أبلغ دلالة من رقب، لزيادة المبنى فيه. وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالاً تحصل لهم. وهذه طريقة إسناد أو تعليققِ المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصاراً في الكلام اعتماداً على ظهور المعنى. وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. والمعنى: فارتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة. والاصطبار: الصبر القوي، وهو كالارتقاب أيضاً أقوى دلالة من الصبر، أي اصبر صبراً لا يعتريه ملل ولا ضجر، أي اصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم، وحذف متعلق {اصطبر} ليعم كل حال تستدعي الضجر. والتقديرُ: واصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من انتظار النصر. وجملة {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} معطوفة على جملة {إنا مرسلوا الناقة} باعتبار أن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلاماً محذوفاً، تقديره: فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم أن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله: {فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63]، وإن كان حرف العطف مختلفاً، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن. والتعريف في {الماء} للعهد، أي ماء القرية الذي يستقون منه، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماءً لسقياهم وقال تعالى: {ولما ورد ماء مدين} [القصص: 23]. وأخبر عن الماء بأنه {قسمة}. والمراد مقسوم فهو من الإِخبار بالمصدر للتأكيد والمبالغة. وضمير {بينهم} عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي منه أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم، ولما ذكرت الناقة عُلم أنها لا تستغني عن الشرب فغلّب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة وإذ لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء. وقد جاء في آية سورة الشعراء (155) {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} وهذا مبدأ الفتنة، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحّوا بذلك وأضمروا حَلْدَها عن الماء فأبلغهم صالح إن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء. والمحْتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة. والمعنى: محتضر عنده فحذف المتعلققِ لظهوره. وهذا من جملة ما أُمر رسولهم بأن ينبئهم به، أي لا يحضُر القوم في يوم شِرب الناقة، وهي بإلهاممِ الله لا تحضر في أيام شرب القوم. والشِّرب بكسر الشين: نوبة الاستقاء من الماء. فنادَوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو قُدار بضم القاف وتخفيف الدال بنُ سالف. ويعرف عند العرب بأحمر، قال زهير: فَتُنْتِجْ لكم غلمانَ أشأَمَ كلَّهم *** كأحمرِ عَاد ثم تُرضع فَتفْطِم يريد أحمر ثمود لأن ثموداً إخوة عاد (ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه). وفي الحديث بُعثت إلى الأحمر والأسود، وكان قُدار من سَادتهم وأهل العزة منهم، وشبههُ النبي بأبي زمعة يعني الأسودَ بن المطلب بن أسد في قوله: فانتدب لها رجل ذو منعة في قومه كأبي زمعة (أي فأجاب نداءهم فَرماها بنبل فقتلها). وعبر عنه بصاحبهم للإِشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون. ونداؤهم إياه نداء الإِغراء بالناقة وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإِقدام وقلة المبالاة لعزته. وتعاطى} مطاوع عاطاه وهو مشتق من: عطَا يعطو، إذا تناول. وصيغة تفاعل تقتضي تعدد الفاعل، شبه تخوف القوم من قتلها لما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وتردُّدُهم في الإِقدام على قتلها بالمعاطاة فكل واحد حين يُحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قُدار. وعطف {فعقر} بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله. والعقر: أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثياً فيتمكن الناحر من نَحره. قال أبو طالب: ضروبٌ بنصل السيف سُوق سمائها *** إذا عدموا زادا فإنك عاقر وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عَقَرها بل قتلها بنبله.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30)} القول فيه كالقول في نظيره الواقع في قصة قوم نوح فليس هو تكريراً ولكنه خاص بهذه القصة.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)} جواب قوله: {فكيف كان عذابي ونذر} [القمر: 30] فهو مثل موقع قوله: {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} [القمر: 19] في قصة عاد كما تقدم. والصيحة: الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة، وفي سورة الأعراف بالرجفة، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم، ولذلك وصفت ب {واحدة} للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحِجْر. و {كانوا} بمعنى: صاروا، وتجيء (كان) بمعنى (صار) حين يراد بها كون متجدد لم يكن من قبل. والهشيم: ما يَبِسَ وجفّ من الكلأ ومن الشجر، وهو مشتق من الهشْم وهو الكَسْر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار. والمراد هنا شيء خاص منه وهو ما جفّ من أغصَان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المْحتظِر. وهو بكسر الظاء المعجمة: الذي يَعمل الحَظيرة ويَبْنيهَا، وذلك بأنه يجمع الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجاً لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يُسيّج ولذلك قال: {كهشيم المحتظر} ولم يقل: كهشيم الحظيرة، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة. والمحتظر: مفتعل من الحظيرة، أي متكلف عمل الحظيرة. والقول في تعدية {أرسلنا} إلى ضمير {ثمود} [القمر: 23] كالقول في {أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} [القمر: 19].
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)} تكرير ثان بعد نظيريه السالفين في قصة قوم نوح وقصة عاد تذييلاً لهذه القصة كما ذيلت بنظيريه القصتان السالفتان اقتضى التكرير مقام الامتنان والحث على التدبر بالقرآن لأن التدبر فيه يأتي بتجنب الضلال ويرشد إلى مسالك الاهتداء فهذا أهم من تكرير {فكيف كان عذابي ونذر} [القمر: 30] فلذلك أوثر.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)} القول في مفرداته كالقول في نظائره، وقصة قوم لوط تقدمت في سورة الأعراف وغيرها. وعرف قوم لوط بالإِضافة إليه إذ لم يكن لتلك الأمة اسم يعرفون به عند العرب. ولم يُحك هنا ما تلقَّى به قوم لوط دعوة لوط كما حكي في القصص الثلاث قبل هذه، وقد حكي ذلك في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الحجر لأن سورة القمر بنيت على تهديد المشركين عن إعراضهم عن الاتّعاظ بآيات الله التي شاهدوها وآثار آياته على الأمم الماضية التي علموا أخبارها وشهدوا آثارها، فلم يكن ثمة مقتض لتفصيل أقوال تلك الأمم إلا ما كان منها مشابهاً لأقوال المشركين في تفصيله ولم تكن أقوال قوم لوط بتلك المثابة، فلذلك اقتصر فيها على حكاية ما هو مشترك بينهم وبين المشركين وهو تكذيب رسولهم وإعراضهم عن نذره. والنذر تقدم. وجملة {إنا أرسلنا عليهم حاصباً} استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عن قوم لوط بأنهم كذبوا بالنذر. وكذلك جملة {نجيناهم بسحر}، وجملة {كذلك نجزي من شكر}. والحاصب: الريح التي تحصِب، أي ترمي بالحصباء ترفعها من الأرض لقوتها، وتقدم في قوله تعالى: {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} في سورة [العنكبوت: 40]. والاستثناء حقيقي لأن آل لوط من جملة قومه. وآل لوط: قرابته وهم بَنَاتُه، ولوط داخل بدلالة الفحوى. وقد ذكر في آيات أخرى أن زوجة لوط لم يُنجها الله ولم يذكر ذلك هنا اكتفاء بمواقع ذكره وتنبيهاً على أن من لا يؤمن بالرسول لا يعد من آله، كما قال: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46] وذكر {بسحر}، أي في وقت السحر للإِشارة إلى إنجائهم قبيل حلول العذاب بقومهم لقوله بعده: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}. وانتصب {نعمة} على الحال من ضمير المتكلم، أي إنعاماً منا. وجملة {كذلك نجزي من شكر} معترضة، وهي استئناف بياني عن جملة {نجيناهم بسحر} باعتبار ما معها من الحال، أي إنعاماً لأجل أنه شكر، ففيه إيماء بأن إهلاك غيرهم لأنهم كفروا، وهذا تعريض بإنذار المشركين وبشارة للمؤمنين. وفي قوله: {من عندنا} تنويه بشأن هذه النعمة لأن ظرف (عند) يدل على الادخار والاستئثار مثل (لدن) في قوله: {من لدنا}. فذلك أبلغ من أن يقال: نعمة منا أو أنعمنا.
{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)} عطف على جملة {إنا أرسلنا عليهم حاصباً} [القمر: 34]. وتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق يقصد منه تأكيد الغرض الذي سيقت القصة لأجله وهو موعظة قريش الذين أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماروا بالنذر. والبطشة: المرَّة من البطش، وهو الأخذ بعنف لعقاب ونحوه، وتقدم في قوله: {أم لهم أيد يبطشون بها} في آخر الأعراف (195)، وهي هنا تمثيل للإِهلاك السريع مثل قوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى} في سورة الدخان (16). والتماري: تفاعل من المِراء وهو الشك. وصيغة المفاعلة للمبالغة. وضمن تماروا} معنى: كذبوا، فعدي بالباء، وتقدم عند قوله تعالى: {فبأي آلاء ربك تتمارى} في سورة النجم (55).
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)} إجمال لما ذكر في غير هذه السورة في قصة قوم لوط أنه نزل به ضيف فرام قومه الفاحشة بهم وعجز لوط عن دفع قومه إذ اقتحموا بيته وأنّ الله أعمى أعينهم فلم يروا كيف يدخلون. والمراودة: محاولة رضَى الكَاره شيئاً بقبول ما كرهه، وهي مفاعلة من راد يرود رَوْداً، إذا ذهب ورجع في أمر، مُثِّلت هيئة من يكرر المراجعة والمحاولة بهيئة المنْصرف ثم الراجع. وضمن {راودوه} معنى دفعوه وصرفوه فعدّي ب {عن}. وأسند المراودة إلى ضمير قوم لوط وإن كان المراودون نفراً منهم لأن ما راودوا عليه هو راد جميع القوم بقطع النظر عن تعيين من يفعله. ويتعلق قوله: {عن ضيفه} بفعل {راودوه} بتقدير مضاف، أي عن تمكينهم من ضيوفه. وقوله: {فذوقوا عذابي ونذر} مقول قول محذوف دل عليه سياق الكلام للنفَر الذين طمسنا أعينهم {ذوقوا عذابي} وهو العمى، أي ألقى الله في نفوسهم أنَّ ذلك عقاب لهم. واستعمل الذوق في الإِحساس بالعذاب مجازاً مرسلاً بعلاقة التقييد في الإِحساس. وعطف النذر على العذاب باعتبار أن العذاب تصديق للنذر، أي ذوقوا مصداق نذري، وتعدية فعل {ذوقوا} إلى {نذري} بتقدير مضاف، أي وآثار نذري. والقول في تأكيده بلام القسم تقدم، وحذفت ياء المتكلم من قوله: {ونذر} تخفيفاً.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)} القول في تأكيده بلام القسم تقدم آنفاً في نظيره. والبكرة: أول النهار وهو وقت الصبح، وقد جاء في الآية الأخرى قوله: {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} [هود: 81]، فذكر {بكرة} للدلالة على تعجيل العذاب لهم. والتصبيح: الكون في زمن الصباح وهو أول النهار. والمستقر: الثابت الدائم الذي يجري على قوة واحدة لا يقلع حتى استأصلهم. والعذاب: هو الخسف ومطر الحجارة وهو مذكور في سورة الأعراف وسورة هود.
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39)} تفريع قوللٍ محذوف خوطبوا به مراد به التوبيخ؛ إمّا بأن ألقي في روعهم عند حلول العذاب، بأن ألقَى الله في أسماعهم صوتاً. والخطاب لجميع الذين أصابهم العذاب المستقر، وبذلك لم تكن هذه الجملة تكريراً. وحذفت ياء المتكلم من قوله: {ونذر} تخفيفاً. والقول في استعمال الذوق هنا كالقول في سابقه. وفائدة الإعلام بما قيل لهم من قوله: {فذوقوا عذابي ونذر} في الموضعين أن يتجدد عند استماع كل نبإ من ذلك ادّكار لهم واتّعاظ وإيقاظ استيفاءً لحق التذكير القرآني.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)} تكرير ثالث تنويها بشأن القرآن للخصوصية التي تقدمت في المواضع التي كرر فيها نظيره وما يقاربه وخاصة في نظيره الموالي هو له. ولم يذكر هنا {فكيف كان عذابي ونذر} [القمر: 30] اكتفاء بحكاية التنكيل لقوم لوط في التعريض بتهديد المشركين.
{وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)} لما كانت عدوة موسى عليه السلام غير موجهة إلى أمة القبط، وغيرَ مراد منها التشريع لهم. ولكنها موجهة إلى فرعون وأهل دولته الذين بأيديهم تسيير أمور المملكة الفرعونية، ليسمحوا بإطلاق بني إسرائيل من الاستعباد، ويمكنوهم من الخروج مع موسى خص بالنذر هنا آل فرعون، أي فرعون وآله لأنه يصدر عن رأيهم، ألا ترى أن فرعون لم يستأثر بردّ دعوة موسى بل قال لمن حوله: {ألا تستمعون} [الشعراء: 25] وقال: {فماذا تأمرون} [الشعراء: 35] وقالوا: {أرْجِهِ وأخاه} [الشعراء: 36] الآية، ولذلك لم يكن أسلوب الإخبار عن فرعون ومن معه مماثلاً لأسلوب الإخبار عن قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط إذ صدر الإِخبار عن أولئك بجملة {كذبت} [القمر: 18]، وخولف في الإِخبار عن فرعون فصدر بجملة {ولقد جاء آل فرعون النذر} وإن كان مآل هذه الأخبار الخمسة متماثلاً. والآل: القرابَة، ويطلق مجازاً على من له شدة اتصال بالشخص كما في قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وكان الملوك الأقدمون ينوطون وزارتهم ومشاورتهم بقرابتهم لأنهم يأمنون كيدهم. والنُذر: جمع نذير: اسم مصدر بمعنى الإِنذار. ووجه جمعه أن موسى كرر إنذارهم. والقول في تأكيد الخبر بالقَسَم كالقول في نظائره المتقدمة. وإسناد التكذيب إليهم بناء على ظاهر حالهم وإلا فقد آمن منهم رجل واحد كما في سورة غافر. وجملة {كذبوا بآياتنا كلها} بدل اشتمال من جملة {جاء آل فرعون النذر} لأن مجيء النذر إليهم ملابس للآيات، وظهور الآيات مقارن لتكذيبهم بها فمجيء النذر مشتمل على التكذيب لأنه مقارنُ مقارنِهِ. وقوله: {بآياتنا} إشارة إلى آيات موسى المذكورة في قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد} [الأعراف: 133] وهي تسع آيات منها الخمس المذكورة في آية الأعراف والأربع الأخر هي: انقلاب العصا حية، وظهور يده بيضاء، وسِنُو القحط، وانفلاق البحر بمرأى من فرعون وآله، ولم ينجع ذلك في تصميمهم على اللحاق ببني إسرائيل. وتأكيد {آياتنا} ب {كلها} إشارة إلى كثرتها وأنهم لم يؤمنوا بشيء منها، وتكذيبهم بآية انفلاق البحر تكذيب فعلي لأن موسى لم يَتحدَّهُم بتلك الآية وقوم فرعون لما رأوا تلك الآية عدّوها سحراً وتوهموا البحر أرضاً فلم يهتدوا بتلك الآية. والأخذ: مستعار للانتقام، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف} في سورة النحل (46، 47). وهذا الأخذ: هو إغراق فرعون ورجالُ دولته وجنده الذين خرجوا لنصرتِه كما تقدم في الأعراف. وانتصب أخذ عزيز مقتدر} على المفعولية المطلقة مبيناً لنوع الأخذ بأفظع ما هو معروف للمخاطبين من أخذ الملوك والجبابرة. والعزيز: الذي لا يغلب. والمقتدر: الذي لا يَعجِز. وأريد بذلك أنه أخْذ لم يبق على العدوّ أيّ إبقاء بحيث قطع دابر فرعون وآله.
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)} هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فُصِلت ولم تعطف. وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجَّهاً للرسول صلى الله عليه وسلم إلى توجيهه للمشركين ليُنتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإِنذار والإِبلاغ. والاستفهام في قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} يجوز أن يكون على حقيقته، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي «سوْقَ المعلوم مساق غيره». وسماه أهل الأدب من قبله ب «تجاهل العارف». وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني: أبا شَجر الخابُورِ ما لكَ مُورِقَا *** كأنَّك لَم تَجْزَع على ابننِ طريف الشاهد في قولها: كأنك لم تجزع الخ. والتوبيخ عن تخطئتهم في عدم العذاب الذي حَلَّ بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفّارهم خيراً من الكفّار الماضين المتحدَّث عن قصصهم، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لَحق الكفار الماضين. والمعنى: أنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم. و {أم} للإِضراب الانتقالي. وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإِنكار. والتقدير: بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب. وضمير {كفاركم} لأهل مكة وهم أنفُسُهم الكفارُ، فإضافة لفظ (كفار) إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير {مِن} البيانية. والمعنى: الكفارُ منكم خير من الكفار السالفين، أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار. والمراد بالأَخْيَرية انتفاء الكفر، أي خير عند الله الانتقام الإِلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك. والبراءة: الخلاص والسلامة مما يضرّ أو يشقّ أو يكلّف كلفة. والمراد هنا: الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة. و {الزّبر}: جمع زبور، وهو الكتاب، وزبور بمعنى مزبور، أي براءة كتبت في كتب الله السالفة. والمعنى: ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السالفة. و {في الزبر} صفة {براءة}، أي كائنة في الزبر، أي مكتوبة في صحائف الكتب. وأفاد هذا الكلام ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين: إما الاتصاف بالخيْر الإِلهي المشار إليه بقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعل الله أطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". والمعنى انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مَأْمَنَ لهم من حلول العذاب بهم كما حلّ بأمثالهم. والآية تُوذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] كما تقدم، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16].
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} {أم} منقطعة لإِضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد (أم) مستعمل في التوبيخ، فإن كانوا قد صرحوا بذلك فظاهر، وإن كانوا لم يصرحوا به فهو إنباء بأنهم سيقولونه. وعن ابن عباس: أنهم قالوا ذلك يوم بَدر. ومعناه: أن هذا نزل قبلَ يوم بدر لأن قوله: {سيهزم الجمع} إنذار بهزيمتهم يوم بدر وهو مستقبل بالنسبة لوقت نزول الآية لوجود علامة الاستقبال. وغير أسلوب الكلام من الخطاب الموجه إلى المشركين بقوله: {أكفاركم خير} [القمر: 43] الخ إلى أسلوب الغيبة رجوعاً إلى الأسلوب الجاري من أول السورة في قوله: {وإن يروا آية يعرضوا} [القمر: 2] بعد أن قُضي حق الإِنذار بتوجيه الخطاب إلى المشركين في قوله: {أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر} [القمر: 43]. والكلام بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم وتعريض بالنِّذارة للمشركين مبني على أنهم تحدثهم نفوسهم بذلك وأنهم لا يحسبون حالهم وحال الأمم التي سيقت إليهم قصصُها متساويةً، أي نحن منتصرون على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ليس رسول الله فلا يؤيده الله. و {جميع} اسم للجماعة الذين أمرهُم واحد، وليس هو بمعنى الإحاطة، ونظيره ما وقع في خبر عمر مع علي وعباس رضي الله عنهم في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فَدَكَ، قال لهما: " ثم جئتماني وأمركما جميع وكلمتكما واحدة " وقول لبيد: عَرِيت وكان بها الجميعُ فأبكروا *** منها وغودَر نْؤيُها وثُمامها والمعنى: بل أيدَّعون أنهم يغالبون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأنهم غالبونهم لأنهم جَميع لا يُغلبون. ومنتصر: وصف {جميع}، جاء بالإِفراد مراعاة للفظ {جميع} وإن كان معناه متعدداً. وتغيير أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة مشعر بأن هذا هو ظنهم واغترارهم، وقد روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: «نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه». فإذا صح ذلك كانت الآية من الإِعجاز المتعلق بالإِخبار بالغيب. ولعل الله تعالى ألقى في نفوس المشركين هذا الغرور بأنفسهم وهذا الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ليشغلهم عن مقاومته باليد ويقصرهم على تطاولهم عليه بالألسنة حتى تكثر أتباعه وحتى يتمكن من الهجرة والانتصار بأنصار الله. فقوله: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} جواب عن قولهم: {نحن جميع منتصر} فلذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها. وهذا بشارة لرسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وهو يعلم أن الله منجز وعده ولا يَزيد ذلك الكافرين إلا غروراً فلا يعيروه جانب اهتمامهم وأخذ العدة لمقاومته كما قال تعالى في نحو ذلك: {ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} [الأنفال: 44]. والتعريف في {الجمع} للعهد، أي الجمع المعهود من قوله: {نحن جميع منتصر} والمعنى: سيهزم جمعهم. وهذا معنى قول النحاة: اللام عوض عن المضاف إليه. والهزم: الغلب، والسين لتقريب المستقبل، كقوله: {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12]. وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون. و {يولُّون}: يجعلون غيرهم يلي، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإِخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولُّونكم الأدبار. و {الدُّبُر}: الظهر، وهو ما أدبر، أي كان وراءً، وعكسه القبل. والآية: إخبار بالغيب، فإن المشركين هُزموا يوم بدر، وولوا الأدبار يومئذٍ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففرُّوا بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في «الصحيح» أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا. وأفرد الدبر، والمراد الجمعُ لأنه جنس يصدق بالمتعدد، أي يولي كل أحد منهم دبره، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تولَ واحدة. وهذا الهزم وقع يوم بدر. روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: " لما نَزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر} جَعَلْتُ أقول: أيُّ جمع يهزم؟ فلما كان يومُ بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} " اه، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيُهزم ويولِّي الدبر فإنه لم يكن يومئذٍ قتال ولا كان يخطر لهم ببال.
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} {بل} للإِضراب الانتقالي، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم، إلى الوعيد بعذاب الآخرة. قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21]، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال: {والساعة أدهى وأمر} وقال في الآية الأخرى {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127] وفي الآية الأخرى {ولعذاب الآخرة أخزى} [فصلت: 16]. و {الساعة}: علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء. والموعد: وقت الوعد، وهو هنا وعد سوء، أي وعيد. والإِضافة على معنى اللام أي موعد لهم. وهذا إجمال بالوعيد، ثم عطف عليه ما يفصّله وهو {والساعة أدهى وأمر}. ووجه العطف أنه أريد جعله خبراً مستقلاً. و {أدهى}: اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر. وأمرُّ: أي أشدّ مرارة. واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف. وأعيد اسم {الساعة} في قوله: {والساعة أدهى} دون أن يؤتي بضميرها لقصد التهويل، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسيرَ مسيرَ المثَل.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} هذا الكلام بيان لقوله: {والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46]. واقتران الكلام بحرف {إن} لفائدتين؛ إحداهما: الاهتمام بصريحه الإِخباري، وثانيهما: تأكيد ما تضمنه من التعريض بالمشركين، لأن الكلام وإن كان موجهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يشك في ذلك فإن المشركين يبلغهم ويشيع بينهم وهم لا يؤمنون بعذاب الآخرة فكانوا جديرين بتأكيد الخبر في جانب التعريض فتكون {إنّ} مستعملة في غرضيها من التوكيد والاهتمام. والتعبير عنهم ب {المجرمين} إظهار في مقام الإِضمار لإِلصاق وصف الإِجرام بهم. والضلال: يطلق على ضد الهدى ويطلق على الخُسران، وأكثر المفسرين على أن المراد به هنا المعنى الثاني. فعن ابن عباس: المراد الخسران في الآخرة، لأن الظاهر أن {يوم يسحبون في النار} طرف للكون في ضلال وسعُر على نحو قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذٍ واجفة} [النازعات: 6 8]، وقوله: {ويوم القيامة هم من المقبوحين} [القصص: 42] فلا يناسب أن يكون الضلال ضد الهدى. ويجوز أن يكون {يوم يسحبون} ظرفاً للكون الذي في خبر {إن}، أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار. فالمعنى: أنهم في ضلال وسعر يوم القيامة و{سُعُر} جمع سعير، وهو النار، وجُمع السعير لأنه قوي شديد. والسحْبُ: الجَرّ، وهو في النار أشد من ملازمة المكان لأنه به يتجدد مماسة نار أخرى فهو أشد تعذيباً. وجُعل السحْب على الوجوه إهانة لهم. و {ذوقوا مس سقر} مقول قول محذوف، والجملة مستأنفة. والذوق مستعار للإِحساس. وصيغة الأمر مستعملة في الإِهانة والمجازاة. والمس مستعمل في الإِصابة على طريقة المجاز المرسل. وسَقَر: عَلَم على جهنم، وهو مشتق من السَّقْر بسكون القاف وهو التهاب في النار، ف {سقر} وضع علَماً لجهنم، ولذلك فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، لأن جهنم اسم مؤنث معنىً اعتبروا فيه أن مسماه نار والنار مؤنثة. والآية تتحمل معنى آخر، وهو أن يراد بالضلال ضد الهدى وأن الإِخبار عن المجرمين بأنهم ليسوا على هُدى، وأن ما هم فيه باطل وضلال، وذلك في الدنيا، وأن يُراد بالسُّعر نيران جهنم وذلك في الآخرة فيكون الكلام على التقسيم. أو يكون السُّعر بمعنى الجنون، يقال: سُعُر بضمتين وسُعْر بسكون العين، أي جنون، من قول العرب ناقة مسعورة، أي شديدة السرعة كأن بها جنوناً كما تقدم عند قوله تعالى: {إنا إذن لفي ضلال وسعر} في هذه السورة (24). وروي عن ابن عباس وفسر به أبو علي الفارسي قائلاً: لأنهم إن كانوا في السعير لم يكونوا في ضلال لأن الأمر قد كشف لهم وإنما وصف حالهم في الدنيا، وعليه فالضلال والسعر حاصلان لهم في الدنيا.
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} استئناف وقع تذييلاً لما قبله من الوعيد والإِنذار والاعتبار بما حلّ بالمكذبين، وهو أيضاً توطئة لقوله: {وما أمرنا إلا واحدة} [القمر: 50] إلخ. والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلالتها وسلّطنَاه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإِصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة. واقترانُ الخبر بحرف (إنّ) يقال فيه ما قلناه في قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47]. والخَلْق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازاً على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى: {وتخلقون إفكاً} [العنكبوت: 17]. فإطلاقه في قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. و {شيء} معناه موجود من الجواهر والأعراض، أي خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدَر. والقدَر: بتحريك الدال مرادف القدْر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها. والمراد: أن خلْق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب. وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم} [الحجر: 85، 86] وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان: 38 40] فترى هذه الآيات وأشباهها تُعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإِنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} بعد قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] وسيقول: {ولقد أهلكنا أشياعكم} [القمر: 51]. فالباء في {بقدر} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خلقناه} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإِعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإِعلام به بَلْه تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يستلزمه معنى القَدر أن كل شيء مخلوققٍ هو جارٍ على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعلُ القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولَّداتُها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدَر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإِيمان: وتؤمن بالقدر خيره وشره. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله في القدَر فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 48، 49]. ولم يذكُرْ راوي الحديث تعيينَ معنى القَدَر الذي خاصم فيه كفار قريش فبقي مجملاً ويظهر أنهم خاصموا جَدلاً ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا: {لو شاء الرحمان ما عبدناهم} [الزخرف: 20]، أي جدلاً للنبي صلى الله عليه وسلم بموجَب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلاً منهم بمعاني القَدر. قال عياض في «الإِكمال» «ظاهره أن المراد بالقدر هنا مرادُ الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية» اه. وقال الباجي في «المنتقَى»: «يحتمل من جهة اللغة معاني: أحدها: أن يكون القَدَر ههنا بمعنى مقدر لا يُزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدراً} [الطلاق: 3]. والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال: {بل قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4]. والثالث: بقَدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدّر له وقتاً نخلقه فيه» اه. قلت: وإذ كان لفظ (قدر) جنساً، ووقع معلّقاً بفعل متعلق بضمير {كل شيء} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاماً للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فَخَلْقُه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقعَ هذا التذييل على أن السلف كانوا يطلقون سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عَدُّوه من السبب. واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جارياً على حكمة، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقاً له من أفعال العباد مثلاً عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة أو القائلين بكسب العبد كالأشعرية، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإِخبار هو مضمون {خلقناه} أو مضمون {بقدر}، ولاحتمال عموم {كل شيء} للتخصيص، ولاحتمال المرادِ بالشيء مَا هو، وليس نفي حجيّة هذه الآية على إثبات القدَر الذي هو محَل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدَر من أدلة أخرى. وحقيقة القدر الاصطلاحي خفيّة فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علمُ الإِنسان إلى كشف غوامضه ومعرفة ما مكّن الله الإِنسان من تنفيذ لما قدّره الله، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن الأعمال الصالحة والأعمالَ السيئة سَواء في التأثر لإِرَادة الله تعالى وتعلققِ قدرته إذا تعلقت بشيء، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدباً مع الخالق لقنه الله عبيده، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأنّ للخير إلهاً وللشر إلهاً، وذلك باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم «وتؤمن بالقدر خيره وشره» وقوله: «القدرية مجوس هذه الأمة» رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعاً. وانتصب {كل شيء} على المفعولية ل {خلقناه} على طريقة الاشتغال، وتقديمه على {خلقناه} ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء، وذكر ضميره ثانياً، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بحرف {إنّ} المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله: {بقدر} بالعامل فيه وهو {خلقناه}، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل: إنا خلقنا كل شيء بقَدَر، فيظن أن المراد: أنا خلقنا كل شيء مُقدّر فيبقى السامع منتظراً لخبر {إن}.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} عطف على قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] فهو داخل في التذييل، أي خلقناه كل شيء بعلم، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه حصل دَفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظَر ولا بداء. وسيأتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية. والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة. وعطف هذا عقب {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] مشعر بترتب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جارٍ في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة: الفَراءُ وثعلبٌ والربعيُ وقطربٌ وهشامٌ وأبو عمرو الزاهد: إن العطف بالواو يفيد الترتيب، وقال ابن مالك: الأكثر إفادته الترتيب. والأمر في قوله: {وما أمرنا} يجوز أن يكون بمعنى الشأن، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام، وهو شأن الخلق والتكوين، أي وما شأن خلقنا الأشياء. ويجوز أن يكون بمعنى الإِذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة «كن» والمآل واحد. وعلى الاحتمالين فصفةُ {واحدة} وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام هو خبر عن {أمرنا}. والتقدير: إلا كلمة واحدةٌ، وهي كلمة (كُنْ) كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة. وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها، فلكل مكوّن منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38] ونحوه، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يُحصر عددها كما قال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق} [الزمر: 6] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوّله. وصح الإِخبار عن (أمر) وهو مذكَّر ب {واحدة} وهو مؤنث باعتبار أن ما صْدَق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة، أي كلمة (كن). وقوله: {كلمح بالبصر} في موضع الحال من {أمرنا} باعتبار الإِخبار عنه بأنه كلمة واحدة، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر، وهو تشبيه في سرعة الحصول، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلّقةِ هي به كسرعة لمح البصر. وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير: فهن وَوادِي الرسِّ كاليد للفَم *** وقد جاء في سورة النحل (77) {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب فزيد هنالك أو {هو أقرب} لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمْر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يتردد السامع في التصديق به. وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجادَ الموجودات بحكمة، وصدورها عن إرادة وقدرة. واللمح: النظر السريع وإخلاس النظر، يقال: لَمحَ البصر، ويقال: لَمح البرق كما يقال: لمعَ البرق. ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى: {كلمح بالبصر} كما قال في سورة النحل (77) {إلا كلمح البصر.}
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)} التُفِتَ من طريق الغيبة إلى الخطاب ومرجع الخطاب هم المشركون لظهور أنهم المقصود بالتهديد، وهو تصريح بما تضمنه قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] فهو بمنزلة النتيجة لقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر إلى كلمح بالبصر} [القمر: 49، 50]. وهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإِهلاك وبأنه يفاجئهم قياساً على إهلاك الأمم السابقة، وهذا المقصد هو الذي لأجله أكد الخبر بلام القسم وحرففِ (قد). أما إهلاك من قبلهم فهو معلوم لا يحتاج إلى تأكيد. ولك أن تجعل مناط التأكيد إثبات أن إهلاكهم كان لأجل شِركهم وتكذيبهم الرسل. وتفريع {فهل من مدكر} قرينة على إرادة المعنيين فإن قوم نوح بقُوا أزماناً فما أقلعوا عن إشراكهم حتى أخذهم الطوفان بغتة. وكذلك عاد وثمود كانوا غير مصدقين بحلول العذاب بهم فلما حل بهم العذاب حل بهم بغتة، وقوم فرعون خرجوا مقتفين موسى وبني إسرائيل واثقين بأنهم مدركوهم واقتربوا منهم وظنوا أنهم تمكنوا منهم فما راعهم إلا أن أنجى الله بني إسرائيل وانطبق البحر على الآخرين. والمعنى: فكما أهلكنا أشياعَكم نهلككم، وكذلك كان، فإن المشركين لمّا حلوا ببدر وهم أوفر عدداً وعُددا كانوا واثقين بأنهم مُنقذون عيرهم وهازمون المسلمين فقال أبو جهل وقد ضَرب فرسه وتقدم إلى الصف «اليوم ننتصر من محمد وأصحابه» فلم تَجُل الخيل جَولة حتى شاهدوا صناديدهم صرعى ببدر: أبا جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم في سبعين رجلاً ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. والأشياع: جمع شيعة. والشيعة: الجماعة الذين يؤيدون من يُضَافون إليه، وتقدم في قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} في آخر سورة الأنعام (159). وأطلق الأشياع هنا على الأمثال والأشباه في الكُفْر على طريق الاستعارة بتشبيههم وهم منقرضون بأشياع موجودين. وفرع على هذا الإنذار قوله: فهل من مدكر} وتقدم نظيره في هذه السورة.
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)} يجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله: {فعلوه} عائداً إلى {أشياعكم} [القمر: 51]، والمعنى: أهلكناهم بعذاب الدنيا وهيّأنا لهم عذاب الآخرة فكتب في صحائف الأعمال كل ما فعلوه من الكفر وفروعه، فالكناية في الزُبر وقعت هنا كناية عن لازمها وهو المحاسبة به فيما بعد وعن لازم لازمها وهو العقاب بعد المحاسبة. وهذا الخبر مستعمل في التعريض بالمخاطبين بأنهم إذا تعرضوا لما يوقع عليهم الهلاك في الدنيا فليس ذلك قصارى عذابهم فإن بعده حساباً عليه في الآخرة يعذبون به وهذا كقوله تعالى: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك} [الطور: 47] ويجوز عندي أن يكون الضمير عائداً إلى الجمع من قوله: {سيهزم الجمع} [القمر: 45] أو إلى {المجرمين} في قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47] الخ، والمعنى كل شيء فعله المشركون من شرك وأذى للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معدود عليهم مهيأ عقابهم عليه لأن الإِخبار عن إحصاء أعمال الأمم الماضين قد أغنى عنه الإِخبار عن إهلاكهم، فالأجدر تحذير الحاضرين من سوء أعمالهم. و {الزبر}: جمع زبور وهو الكتاب مشتق من الزبر، وهو الكتابة، وجُمعت الزبر لأن لكل واحد كتاب أعماله، قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً إقرأ كتابك} [الإسراء: 13، 14] الآية. وعموم {كل شيء فعلوه} مراد به خصوص ما كان من الأفعال عليه مؤاخذة في الآخرة.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} هذا كالتذييل لقوله: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] فكل صغير وكبير أعمّ من كل شيء فعلوه، والمعنى: وكل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي مكتوب مسطور، أي في علم الله تعالى أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه، فمستطر: اسم مفعول من سطر إذا كتب سطوراً قال تعالى: {وكتاب مسطور} [الطور: 2]. وهذا كقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3]. فالصغير: مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يَهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة. والكبير: مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح ومَا له شأن من الفساد وما هو دون ذلك، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة، وكذلك كبائر الإِثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر. والمستطر: كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعاً للتبشير والإِنذار.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطرِ على إرادة أنه معلوم ومجازىً عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والعكس. وافتتاح هذا الخبر بحرف {إن} للاهتمام به. و {في} من قوله: {في جنات} للظرفية المجازية التي هي بمعنى التلبس القوي كتلبس المظروف بالظرف، والمراد في نعيم جنات ونهر فإن للجنات والأنهار لذات متعارفة من اللهو والأُنس والمحادثة، واجتناء الفواكه، ورؤية جَرَيَاننِ الجداول وخرير الماء، وأصوات الطيور، وألوان السوابح. وبهذا الاعتبار عطف {نهر} على {جنات} إذ ليس المراد الإخبار بأنهم ساكنون جناتتٍ فإن ذلك يغني عنه قوله بعد: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر}، ولا أنهم منغمسون في أنهار إذ لم يكن ذلك مما يقصده السامعون. ونهَرَ: بفتحتين لغة في نهْر بفتح فسكون. والمراد به اسم الجنس الصادق بالمتعدد لقوله تعالى: {من تحتهم الأنهار} [الأعراف: 43]، وقوله: {في مقعد صدق} إما في محل الحال من المتقين وإما في محل الخبر الثاني ل {إنّ}. والمقعد: مكان القعود. والقعود هنا بمعنى الإِقامة المطمئنة كما في قوله تعالى: {اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46]. والصدق: أصله مطابقة الخبر للواقع ثم شاعت له استعمالات نشأت عن مجاز أو استعارة ترجع إلى معنى مصادفة أحد الشّيء على ما يناسب كمال أحوال جنسه، فيقال: هو رَجُل صدق، أي تمام رُجلة، وقال تأبط شراً: إني لمهد من ثنائي فقاصد *** به لابننِ عَمِّ الصدق شُمس بن مالك أي ابن العم حقا، أي موف بحق القرابة. وقال تعالى: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق} [يونس: 93] وقال في دعاء إبراهيم عليه السلام {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84] ويسمى الحبيب الثابت المحبة صَديقاً وصدّيقاً. فمقعد صدق، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال، وإضافة {مقعد} إلى {صدق} من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه. والمعنى: هم في مقعد يشتمل على كل ما يحمده القاعد فيه. والمَليك: فعيل بمعنى المالك مبالغة وهو أبلغ من مَلِك، ومقتدر: أبلغ من قادر، وتنكيره وتنكير مُقتدر للتعظيم. والعندية عندية تشريف وكرامة، والظرف خبر بعد خبر.
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2)} هذه آية واحدة عند جمهور العادِّين. ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامةُ آية عقب كلمة {الرحمن}، إذ عدّها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانياً وسبعين. فإذا جعل اسم {الرحمن} آية تعين أن يكون اسم «الرحمن»: إما خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام. ويجوز أن يكون واقعاً موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى: {قالوا وما الرحمن} كما تقدم في سورة الفرقان (60)، فيكون موقعه شبيهاً بموقع الحروف المقطَّعة التي يُتَهجّى بها في أوائل بعض السور على أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطأوا في إنكارهم الحقائق. وافتتح {باسم الرحمن} فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى: {قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60]، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته. على أنه قد قيل: إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم {إنما يعلمه بشر} [النحل: 103]، أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أقوى من الاهتمام بالتعليم. وأوثر استحضار الجلالة باسم {الرحمن} دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردَّين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم {الرحمن} براعة استهلال. وقد أُخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] كما سيأتي لأنها جيء بها على نمط التعديد في مقام الامتنان والتوقيف على الحقائق والتبكيت للخصم في إنكارهم صريح بعضها، وإعراضهم عن لوازم بعضها كما سيأتي، ففصل جملتي {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 3، 4] عن جملة {علم القرآن} خلاف مقتضى الظاهر لنكتة التعديد للتبكيت. وعطف عليها أربعة أُخر بحرف العطف من قوله: {والنجم والشجر يسجدان} إلى قوله: {والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 6 10] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد. وجيء بالمسند فعلاً مؤخراً عن المسند إليه لإِفادة التخصيص، أي هو علَّم القرآن لا بشرٌ علمه وحذف المفعول الأول لفعل {علم القرآن} لظهوره، والتقدير: علّم محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم ادعوا أنه معلَّم وإنما أنكروا أن يكون معلِّمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول. وانتصب {القرآن} على أنه مفعول ثان لفعل {علم}، وهذا الفعل هنا معدَى إلى مفعولين فقط لأنه ورد على أصل ما يفيده التضعيف من زيادة مفعول آخر مع فاعل فعلِه المجرد، وهذا المفعول هنا يصلح أن يتعلق به التعليم إذ هو اسم لشيء متعلق به التعليم وهو القرآن، فهو كقول معن بن أوس: أعلِّمه الرماية كلَّ يوم وقوله تعالى: {وإذ علمتك الكتاب} في سورة العقود (110) وقوله: {وما علمناه الشعر} في سورة يس (69)، ولا يقال: علّمته زيداً صديقاً، وإنما يقال: أعلمته زيداً صديقاً، ففعل عَلِم إذا ضُعّف كان بمعنى تحصيل التعليم بخلافه إذ عُدّي بالهمزة فإنه يكون لتحصيل الإِخبار والإِنباء. وقد عدد الله في هذه السورة نعماً عظيمة على الناس كلهم في الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة وقدم أعظمها وهو نعمة الدين لأن به صلاح الناس في الدنيا، وباتباعهم إياه يحصل لهم الفوز في الآخرة. ولما كان دين الإسلام أفضل الأديان، وكان هو المنزّل للناس في هذا الإِبَّان، وكان متلقى من أفضل الوحي والكتب الإِلهية وهو القرآن، قدمه في الإِعلام وجعله مؤذناً بما يتضمنه من الدين ومشيراً إلى النعم الحاصلة بما بين يديه من الأديان كما قال: {هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92]. ومناسبة اسم {الرحمن} لهذه الاعتبارات منتزعة من قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. و {القرآن}: اسم غلب على الوحي اللفظي الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإِعجاز بسورة منه وتعبُّد ألفاظه.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} خبر ثان، والمراد بالإِنسان جنس الإِنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو {علمه البيان} [الرحمن: 4]. وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجَبها وهو إفرادُ الله تعالى بالعبادة، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يَعُد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته، وهذا تبكيت ثاننٍ. ففي خلق الإِنسان دلالتان: أولاهما: الدلالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية، وثانيتهما: الدلالة على نعمة الله على الإِنسان. والخلق: نعمة عظيمة لأن فيها تشريفاً للمخلوق بإخراجه من غياهب العدم إلى مَبْرَز الوجود في الأعيان، وقُدّم خلق الإِنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفاً من مناسبة إردافه بتعليم القرآن. ومجيء المسند فعلاً بعد المسند إليه يفيد تقوّي الحكم. ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.
{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإِبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإِيجاد، أي علّم جنس الإِنسان أن يُبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو. والبيان: الإِعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإِنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم. وأما البيان بغير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضاً من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق. ومعنى تعليم الله الإِنسان البيانَ: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك وألهمه وضع اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} في سورة البقرة (31). وفيه الإِشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان، فعدّ نعمة التكاليف الدينية وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان وهي خصائص اللغة وآدابها. ومجيء المسند فعلاً بعد المسند إليه لإِفادة تقوّي الحكم. وفيه من التبكيت ما علمته آنفاً، ووجهه أنهم لم يشكروه على نعمة البيان إذ صرفوا جزءاً كبيراً من بيانهم فيما يلهيهم عن إفراد الله بالعبادة وفيما ينازعون به من يدعوهم إلى الهدى.
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلاّ كان ذِكره هنا بدون مناسبة فينقلب اعتراضاً. ورابط الجملة بالمبتدأ تقديره: بحسبانه، أي حسبان الرحمن وضبطه. وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجْوَائِهم وأرزاقهم. ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم. وفي كون هذا الخبر جارياً على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفاً من التبكيت، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يَدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت: 37]. وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق. واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسنداً إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين: أحدهما: يدل على الاستدلال، والآخر يدل على الامتنان، كما وقع في قوله: {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 3، 4]. والحُسبان: مصدر حسَب بمعنى عد مثل الغفران. والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر، والتقدير: كائنان بحسبان، أي بملابسة حسبان، أي لحساب الناس مواقع سيرهما. وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول: أنتَ بعنايةٍ مني، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسةً اعتبارية، وقوله تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقد تقدم في قوله تعالى: {والشمس والقمر حسباناً} في سورة الأنعام (96). والحُسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاماً مطرداً لا يختل حساب الناس له والتوقيت به. واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواء، والحَرّ والبرد، مثللِ الجوزاء، والشِعرى، ومنزلة الأسد، والثريا، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى. ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم الناس فالشمس: كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله وداخلة في النظام الشمسي. والقمر: كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء، والأرض، والمشرق، والمغرب، والبحرين.
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} عطف على جملة {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] عطف الخبر على الخبر للوجه الذي تقدم لأن سجود الشمس والقَمر لله تعالى وهو انتقال من الامتنان بما في السماء من المنافع إلى الامتنان بما في الأرض، وجعل لفظ {النجم} واسطة الانتقال لصلاحيته لأنه يراد منه نجوم السماء وما يسمى نجماً من نبات الأرض كما يأتي. وعطفت جملة {والنجم والشجر يسجدان} ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين، فالإِخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإِيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بَعد ذكر الشمس والقمر، كان ذلك مقتضياً سلوك طريقة الوصل بالعطف بجامع التضاد. وجُعلت الجملة مفتَتَحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت هي عليها. وأتي بالمسند فعلاً مضارعاً للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال} [الرعد: 15]. و {النجم} يطلق: اسمَ جمع على نجوم السماء قال تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1]، ويطلق مفرداً فيُجمع على نجوم، قال تعالى: {وإدبار النجوم} [الطور: 49]. وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء. ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سُوق له فهو متصل بالتراب. وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له. والشجر: النبات الذي له ساق وارتفاعٌ عن وجه الأرض. وهذان ينتفع بهما الإِنسان والحيوان. فحصل من قوله: {والنجم والشجر يسجدان} بعد قوله: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة. والسجود: يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم، ويطلق على الوقوع على الأرض مجازاً مرسلاً بعلاقة الإِطلاق، أو استعارة ومنه قولهم: «نخلة ساجدة» إذا أمالها حِمْلُها، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنوّ أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه، ففعل {يسجدان} مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بأن شبه ارتسام ظِلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طَوعاً وكرهاً وظِلالهم بالغدوّ والآصال} في سورة الرعد (15)، وكما قال امرؤ القيس: يَكُبُّ على الأذ *** قان وْحَ الكَنَهْبَلِ فقال: على الأذقان، ليكون الانكباب مشبهاً بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية، وذكر الأذقان تخييل، وعليه يكون فعل يسجدان} هنا مستعملاً في مجازه، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عِدَّةً على أن الله مُوجدها ومُسخرها، ففي جميعها دلالات عقلية، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال.
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} اطّرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يُشبه الضدين بعد مقابلةِ ذِكر الشمس والقمرِ بذِكر النجممِ والشجر، فجيء بِذكر خلق السماء وخلق الأرض. وعاد الكلام إلى طريقة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله: {الرحمن علم القرآن} [الرحمن: 1، 2]، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه. ورفع السماء يقتضي خلقَها. وذُكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها: خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط: وسّع جيب القميص، أي خِطْه واسعاً على أن في مجرد الرفع إيذاناً بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه، ولأنها مكان الملائكة، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها. و {الميزان}: أصله اسمُ آلة الوزن، والوزن تقديرُ تعادُللِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن، وقد تقدم في قوله تعالى: {والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه} في سورة الأعراف (8)، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس. والميزان هنا مراد به العدل، مثل الذي في قوله تعالى: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] لأنه الذي وضعه الله، أي عيّنه لإِقامة نظام الخلق، فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإِنزال في قوله: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان}. ومنه قول أبي طلحة الأنصاري «وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بئرحاءٍ وأنها صدقة لله فضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراكَ الله» أي اجعلها وعينها لما يدُلُّك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضِدية وإيهامُ طباق مع قوله: {رفعها} ففيه محسِّنان بديعيان. وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} في سورة يونس (5)، وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} في سورة الحجر (85)، وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} في سورة الدخان (38، 39). وهذا يصدّق القول المأثور: بالعدل قامت السماوات والأرض. وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان. و (أنْ) في قوله: ألا تطغوا} يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل. وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيرُه بحرف (أنْ) التفسيرية. فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيراً لذلك. فتكون (لا) ناهية. ويجوز أن تكون (أنْ) مصدرية بتقدير لاَم الجر محذوفة قبلَها. والتقدير: لئلا تَطْغَوْا في الميزان، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة. وتكون (لا) نافية، وفعْل {تطغوا} منصوباً ب (أن) المصدرية. ولفظ {الميزان} يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل {وضع} وفعلي {لا تَطْغَوْا} و{أقيموا} وحرف الباء في قوله: {بالقسط} وحرف {في} من قوله: {في الميزان} ولفظ {القسط}، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن. والطغيان: دحض الحق عمداً واحتقاراً لأصحابه، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم. ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه. و {في} من قوله: {في الميزان} ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية في قوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء: 5]، أي ارزقوهم من بعضها وقول سَبرة بننِ عَمْرو الفقعسي: سَبرةَ بننِ عَمْرو الفقعسي *** ونَشرب في أثمانها ونُقامر إذْ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت: نُحابي بها أكفاءنا ونُهينُها *** وقوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} عطف على جملة {ألا تطغوا في الميزان} على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية. وعلى جملة {ووضع الميزان} على احتمال كون المعطوف عليها تعليلاً. والإِقامة: جعل الشيء قائماً، وهو تمثيل للإِتيان به على أكمل ما يراد له وقد تقدم عند قوله: {ويقيمون الصلاة} في سورة البقرة (3). والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس. ٍ والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: قسط، وتقدم في قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} في سورة الأنبياء (47). والباء للمصاحبة. والمعنى: اجعلوا العدل ملازماً لما تقوّمونه من أموركم كما قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام: 152] وكما قال: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا} [المائدة: 8]، فيكون قوله: {بالقسط} ظرفاً مستقراً في موضع الحال، أو الباء للسببية، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل، فيكون قوله: {بالقسط} طرفاً لغواً متعلقاً، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1 3]. فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله: {ولا تخسروا الميزان} فإن حُمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيهاً على شدة عناية الله بالعدل، وإنْ حُمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين (3) {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} والإِخسار: جعل الغير خاسرا والخسارة النقص. فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإِخسار جعل صاحب الحق خاسراً مغبوناً؛ ويكون الميزان} منصوباً على نزع الخافص، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإِخسار بمعنى النقص، أي لا تجعلوا الميزان ناقصاً كما قال تعالى: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} [هود: 84]، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل.
|